سورة الشعراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثاً، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو هاهنا أمور ثلاثة: الأول: قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع، وروي أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال: «يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم محمد، يا صفية عمة محمد؛ إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من المال ما شئتم».
وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس، فأكلوا وشربوا، ثم قال يا بني عبد المطلب: «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً، أكنتم مصدقي؟» قالوا نعم فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
الثاني: قوله: {واخفض جَنَاحَكَ} واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب، فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال: {لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}؟ جوابه: لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين.
فأما قوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ} فمعناه ظاهر، قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله، كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له؟
الجواب: أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها، وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث: قوله: {وَتَوَكَّلْ} والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره، وقوله: {عَلَى العزيز الرحيم} أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة، وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه:
أحدها: المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال (المجتهدين) ليطلع على أسرارهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين.
وثانيها: المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم.
وثالثها: أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين.
ورابعها: المراد تقلب بصره فيمن (يصلي) خلفه من قوله صلى الله عليه وسلم:
أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ السميع} أي لما تقوله: {العليم} أي بما تنويه وتعمله، وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته.
واعلم أنه قرئ {ونقلبك}.
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية وبالخبر، أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن، وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان، وأما الخبر فقوله عليه السلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] قالوا: فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءازَرَ} [الأنعام: 74] قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له، وقال عليه السلام: «ردوا على أبي» يعني العباس، ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وسليمان} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم.
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى: {لأَبِيهِ ءازَرَ} وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره، وأما حمل قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز، وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن.


{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}
اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين:
الأول: قوله: {تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني: قوله: {يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أيضاً، فلما لم يظهر في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة، ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً: أحدها: أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} فيما (يوحى) به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا.
وثانيها: يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة.
وثالثها: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم.
ورابعها: يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، فإن قلت {يُلْقُون} ما محله؟ قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع، وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال: لم ننزل على الأفاكين؟ فقيل يفعلون كيت وكيت، فإن قلت كيف قال: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم.


{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
اعلم أن الكفار لما قالوا: لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء؟ ثم إنه سبحانه فرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الكهنة، فذكر هاهنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون، أي الضالون، ثم بين تلك الغواية بأمرين: الأول: {أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا الثاني: {أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} وذلك أيضاً من علامات الغواة، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} [الشعراء: 213] ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد صلى الله عليه وسلم ما كان يشبه حال الشعراء، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة: أحدها: الإيمان وهو قوله: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ}.
وثانيها: العمل الصالح وهو قوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات}.
وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، وهو قوله: {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً}.
ورابعها: أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وهو قوله: {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قال الله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً، وعن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «اهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل».
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك».
فأما قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل العقلية، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين، ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً صلى الله عليه وسلم تارة بالكاهن، وتارة بالشاعر، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور: المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10